سورة الرحمن - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرحمن)


        


{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)}
إشارة إلى ما هو أعظم من إرسال الشواظ على الإنس والجن، فكأنه تعالى ذكر أولاً ما يخاف منه الإنسان، ثم ذكر ما يخاف منه كل واحد ممن له إدراك من الجن والإنس والملك حيث تخلوا أماكنهم بالشق ومساكن الجن والإنس بالخراب، ويحتمل أن يقال: إنه تعالى لما قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] إشارة إلى سكان الأرض، قال بعد ذلك: {فَإِذَا انشقت السماء} بياناً لحال سكان السماء، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: الفاء في الأصل للتعقيب على وجوه ثلاثة منها: التعقيب الزماني للشيئين اللذين لا يتعلق أحدهما بالآخر عقلاً كقوله قعد زيد فقام عمرو، لمن سألك عن قعود زيد وقيام عمر، وإنهما كانا معاً أو متعاقبين ومنها: التعقيب الذهني للذين يتعلق أحدهما بالآخر كقولك: جاء زيد فقام عمرو إكراماً له إذ يكون في مثل هذا قيام عمرو مع مجيء زيد زماناً ومنها: التعقيب في القول كقولك: لا أخاف الأمير فالملك فالسلطان، كأنك تقول: أقول لا أخاف الأمير، وأقول لا أخاف الملك، وأقول لا أخاف السلطان، إذا عرفت هذا فالفاء هنا تحتمل الأوجه جميعاً، أما الأول: فلأن إرسال الشواظ عليهم يكون قبل انشقاق السموات، ويكون ذلك الإرسال إشارة إلى عذاب القبر، وإلى ما يكون عند سوق المجرمين إلى المحشر، إذ ورد في التفسير أن الشواظ يسوقهم إلى المحشر، فيهربون منها إلى أن يجتمعوا في موضع واحد، وعلى هذا معناه يرسل عليكما شواظ، فإذا انشقت السماء يكون العذاب الأليم، والحساب الشديد على ما سنبين إن شاء الله وأما الثاني: فوجهه أن يقال: يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فيكون ذلك سبباً لكون السماء تكون حمراء، إشارة إلى أن لهيبها يصل إلى السماء ويجعلها كالحديد المذاب الأحمر، وأما الثالث: فوجهه أن يقال: لما قال: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] أي في وقت إرسال الشواظ عليكما قال: فإذا انشقت السماء وصارت كالمهل، وهو كالطين الذائب، كيف تنتصران؟ إشارة إلى أن الشواظ المرسل لهب واحد، أو فإذا انشقت السماء وذابت، وصارت الأرض والجو والسماء كلها ناراً فكيف تنتصران؟.
المسألة الثانية: كلمة (إذا) قد تستعمل لمجرد الظرف وقد تستعمل للشرط وقد تستعمل للمفاجأة وإن كانت في أوجهها ظرفاً لكن بينها فرق فالأول: مثل قوله تعالى: {واليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى} [الليل: 1، 2] والثاني: مثل قوله: إذا أكرمتني أكرمك ومن هذا الباب قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [آل عمران: 159] وفي الأول لابد وأن يكون الفعل في الوقت المذكور متصلاً به وفي الثاني لا يلزم ذلك، فإنك إذا قلت: إذا علمتني تثاب يكون الثواب بعده زماناً لكن استحقاقه يثبت في ذلك الوقت متصلاً به والثالث: مثال ما يقول: خرجت فإذا قد أقبل الركب أما لو قال: خرجت إذا أقبل الركب فهو في جواب من يقول متى خرجت إذا عرفت هذا فنقول: على أي وجه استعمل (إذا) ههنا؟ نقول: يحتمل وجهين:
أحدهما: الظرفية المجردة على أن الفاء للتعقيب الزماني، فإن قوله: {فَإِذَا انشقت السماء} بيان لوقت العذاب، كأنه قال: إذا انشقت السماء يكون العذاب أي بعد إرسال الشواظ، وعند انشقاق السماء يكون وثانيهما: الشرطية وذلك على الوجه الثالث وهو قولنا: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} عند إرسال الشواظ فكيف تنتصران إذا انشقت السماء، كأنه قال: إذا انشقت السماء فلا تتوقعوا الانتصار أصلاً، وأما الحمل على المفاجأة على أن يقال: يرسل عليكما شواظ فإذا السماء قد انشقت، فبعيد ولا يحمل ذلك إلا على الوجه الثاني من أن الفاء للتعقيب الذهني.
المسألة الثالثة: ما المختار من الأوجه؟ نقول: الشرطية وحينئذ له وجهان:
أحدهما: أن يكون الجزاء محذوفاً رأساً ليفرض السامع بعده كل هائل، كما يقول القائل: إذا غضب السلطان على فلان لا يدري أحد ماذا يفعله، ثم ربما يسكت عند قوله إذا غضب السلطان متعجباً آتياً بقرينة دالة على تهويل الأمر، ليذهب السامع مع كل مذهب، ويقول: كأنه إذا غضب السلطان يقتل ويقول الآخر: إذا غضب السلطان ينهب ويقول الآخر غير ذلك وثانيهما: ما بينا من بيان عدم الانتصار ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام} إلى أن قال تعالى: {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً} [الفرقان: 25، 26] فكأنه تعالى قال: إذا أرسل عليهم شواظ من نار ونحاس فلا ينتصران، فإذا انشقت السماء كيف ينتصران؟ فيكون الأمر عسيراً، فيكون كأنه قال: فإذا انشقت السماء يكون الأمر عسيراً في غاية العسر، ويحتمل أن يقال: فإذا انشقت السماء يلقى المرء فعله ويحاسب حسابه كما قال تعالى: {إِذَا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] إلى أن قال: {يأَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحاً فملاقيه} [الانشقاق: 6] الآية.
المسألة الرابعة: ما المعنى من الانشقاق؟ نقول: حقيقته ذوبانها وخرابها كما قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السماء} [الانبياء: 104] إشارة إلى خرابها ويحتمل أن يقال: انشقت بالغمام كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام} [الفرقان: 25] وفيه وجوه منها أن قوله: {بالغمام} أي مع الغمام فيكون مثل ما ذكرنا هاهنا من الانفطار والخراب.
المسألة الخامسة: ما معنى قوله تعالى: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان}؟ نقول: المشهور أنها في الحال تكون حمراء يقال: فرس ورد إذا أثبت للفرس الحمرة، وحجرة وردة أي حمراء اللون. وقد ذكرنا أن لهيب النار يرتفع في السماء فتذوب فتكون كالصفر الذائب حمراء، ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يقال: وردة للمرة من الورود كالركعة والسجدة والجلسة والقعدة من الركوع والسجود والجلوس والقعود، وحينئذ الضمير في كانت كما في قوله: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} [ياس: 53] أي الكائنة أو الداهية وأنث الضمير لتأنيث الظاهر وإن كان شيئاً مذكراً، فكذا هاهنا قال: {فَكَانَتْ وَرْدَةً} واحدة أي الحركة التي بها الانشقاق كانت وردة واحدة، وتزلزل الكل وخرب دفعة، والحركة معلومة بالانشقاق لأن المنشق يتحرك، ويتزلزل، وقوله تعالى: {كالدهان} فيه وجهان:
أحدهما: جمع دهن وثانيهما: أن الدهان هو الأديم الأحمر، فإن قيل: الأديم الأحمر مناسب للوردة فيكون معناه كانت السماء كالأديم الأحمر، ولكن ما المناسبة بين الوردة وبين الدهان؟ نقول: الجواب عنه من وجوه:
الأول: المراد من الدهان ما هو المراد من قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل} [المعارج: 8] وهو عكر الزيت وبينهما مناسبة، فإن الورد يطلق على الأسد فيقال: أسد ورد، فليس الورد هو الأحمر القاني والثاني: أن التشبيه بالدهن ليس في اللون بل في الذوبان والثالث: هو أن الدهن المذاب ينصب انصبابة واحدة ويذوب دفعة والحديد والرصاص لا يذوب غاية الذوبان، فتكون حركة الدهن بعد الذوبان أسرع من حركة غيره فكأنه قال حركتها تكون وردة واحدة كالدهان المصبوبة صباً لا كالرصاص الذي يذوب منه ألطفه وينتفع به ويبقي الباقي، وكذلك الحديد والنحاس، وجمع الدهان لعظمة السماء وكثرة ما يحصل من ذوبانها لاختلاف أجزائها، فإن الكواكب تخالف غيرها.


{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)}
وفيه وجهان:
أحدهما: لا يسأله أحد عن ذنبه، فلا يقال: له أنت المذنب أو غيرك، ولا يقال: من المذنب منكم بل يعرفونه بسواد وجوههم وغيره، وعلى هذا فالضمير في ذنبه عائد إلى مضمر مفسر بما يعده، وتقديره لا يسأل إنس عن ذنبه ولا جان يسأل، أي عن ذنبه وثانيهما: معناه قريب من المعنى قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] كأنه يقول: لا يسأل عن ذنبه مذنب إنس ولا جان وفيه إشكال لفظي، لأن الضمير في ذنبه إن عاد إلى أمر قبله يلزم استحالة ما ذكرت من المعنى بل يلزم فساد المعنى رأساً لأنك إذا قلت: لا يسأل مسؤول واحد أو إنسي مثلاً عن ذنبه فقولك بعد إنس ولا جان، يقتضي تعلق فعل بفاعلين وأنه محال، والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن لا يفرض عائداً وإنما يجعل بمعنى المظهر لا غير ويجعل عن ذنبه كأنه قال: عن ذنب مذنب ثانيهما: وهو أدق وبالقبول أحق أن يجعل ما يعود إليه الضمير قبل الفعل فيقال: تقديره فالمذنب يومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، وفيه مسائل لفظية ومعنوية:
المسألة الأولى: اللفظية الفاء للتعذيب وأنه يحتمل أن يكون زمانياً كأنه يقول: فإذا انشقت السماء يقع العذاب، فيوم وقوعه لا يسأل، وبين الأحوال فاصل زماني غير متراخ، ويحتمل أن يكون عقلياً كأنه يقول: يقع العذاب فلا يتأخر تعلقه بهم مقدار ما يسألون عن ذنبهم، ويحتمل أن يكون أراد الترتيب الكلامي كأنه يقول: تهربون بالخروج من أقطار السموات، وأقول لا تمتنعون عند انشقاق السماء، فأقول: لا تمهلون مقدار ما تسألون.
المسألة الثانية: ما المراد من السؤال؟ نقول: المشهور ما ذكرنا أنهم لا يقال لهم: من المذنب منكم، وهو على هذا سؤال استعلام، وعلى الوجه الثاني سؤال توبيخ أي لا يقال له: لم أذنب المذنب، ويحتمل أن يكون سؤال موهبة وشفاعة كما يقول القائل: أسألك ذنب فلان، أي أطلب منك عفوه، فإن قيل: هذا فاسد من وجوه:
أحدها: أن السؤال إذا عدى بعن لا يكون إلا بمعنى الاستعلام أو التوبيخ وإذا كان بمعنى لاستعطاء يعدى بنفسه إلى مفعولين فيقال: نسألك العفو والعافية ثانيها: الكلام لا يحتمل تقديراً ولا يمكن تقديره بحيث يطابق الكلام، لأن المعنى يصير كأنه يقول: لا يسأل واحد ذنب أحد بل أحد لا يسأل ذنب نفسه ثالثها: قوله: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} [الرحمن: 41] لا يناسب ذلك نقول: أما الجواب عن الأول فهو أن السؤال ربما يتعدى إلى مفعولين غير أنه عند الاستعلام يحذف الثاني ويؤتى بما يتعلق به يقال: سألته عن كذا أي سألته الإخبار عن كذا فيحذف الإخبار ويكتفي بما يدل عليه، وهو الجار والمجرور فيكون المعنى طلبت منه أن يخبرني عن كذا وعن الثاني: أن التقدير لا يسأل إنس ذنبه ولا جان، والضمير يكون عائداً إلى المضمر لفظاً لا معنى، كما نقول: قتلوا أنفسهم، فالضمير في أنفسهم عائد إلى ما في قولك: قتلوا لفظاً لا معنى لأن ما في قتلوا ضمير الفاعل، وفي أنفسهم ضمير المفعول، إذ الواحد لا يقتل نفسه وإنما المراد كل واحد قتل واحداً غيره، فكذلك (كل) إنس لا يسأل (عن) ذنبه أي ذنب إنس غيره، ومعنى الكلام لا يقال: لأحد اعف عن فلان، لبيان أن لا مسئول في ذلك الوقت من الإنس والجن، وإنما كلهم سائلون الله والله تعالى حينئذ هو المسئول.
وأما المعنوية فالأولى: كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] وبينه وبين قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24] نقول: على الوجه المشهور جوابان:
أحدهما: أن للآخرة مواطن. فلا يسأل في موطن، ويسأل في موطن وثانيهما: وهو أحسن لا يسأل عن فعله أحد منكم، ولكن يسأل بقوله: لم فعل الفاعل فلا يسأل سؤال استعلام، بل يسأل سؤال توبيخ، وأما على الوجه الثاني فلا يرد السؤال، فلا حاجة إلى بيان الجمع.
والثانية: ما الفائدة في بيان عدم السؤال؟ نقول: على الوجه المشهور فائدته التوبيخ لهم كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 40، 41] وقوله تعالى: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] وعلى الثاني بيان أن لا يؤخذ منهم فدية، فيكون ترتيب الآيات أحسن، لأن فيها حينئذ بيان أن لا مفر لهم بقوله: {إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ} [الرحمن: 33] ثم بيان أن لا مانع عنهم بقوله: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] ثم بيان أن لا فداء لهم عنهم بقوله: لا يسأل، وعلى الوجه الأخير، بيان أن لا شفيع لهم ولا راحم وفائدة أخرى: وهو أنه تعالى لما بين أن العذاب في الدنيا مؤخر بقوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} [الرحمن: 31] بين أنه في الآخرة لا يؤخر بقدر ما يسأل وفائدة أخرى: وهو أنه تعالى لما بين أن لا مفر لهم بقوله: {لاَ تَنفُذُونَ} [الرحمن: 33] ولا ناصر لهم يخلصهم بقوله: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} بين أمراً آخر، وهو أن يقول المذنب: ربما أنجو في ظل خمول واشتباه حال، فقال: ولا يخفى أحد من المذنبين بخلاف أمر الدنيا، فإن الشرذمة القليلة ربما تنجو من العذاب العام بسبب خمولهم.


{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)}
اتصال الآيات بما قبلها على الوجه المشهور، ظاهر لا خفاء فيه، إذ قوله: {يُعْرَفُ المجرمون} كالتفسير وعلى الوجه الثاني من أن المعنى لا يسأل عن ذنبه غيره كيف قال: يعرف ويؤخذ وعلى قولنا: لا يسأل سؤال حط وعفو أيضاً كذلك، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: السيما كالضيزى وأصله سومى من السومة وهو يحتمل وجوهاً أحدها: كي على جباههم، قال تعالى: {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ} [التوبة: 35] ثانيها: سواد كما قال تعالى: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] وقال تعالى: {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] ثالثها: غبرة وقترة.
المسألة الثانية: ما وجه إفراد (يؤخذ) مع أن (المجرمين) جمع، وهم المأخوذون؟ نقول فيه وجهان:
أحدهما: أن يؤخذ متعلق بقوله تعالى: {بالنواصي} كما يقول القائل ذهب بزيد وثانيهما: أن يتعلق بما يدل عليه يؤخذ، فكأنه تعالى قال، فيؤخذون بالنواصي، فإن قيل كيف عدى الأخذ بالباء وهو يتعدى بنفسه قال تعالى: {لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] وقال: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} [طه: 21] نقول: الأخذ يتعدى بنفسه كما بينت، وبالباء أيضاً كقوله تعالى: {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} [طه: 94] لكن في الاستعمال تدقيق، وهو أن المأخوذ إن كان مقصوداً بالأخذ توجه الفعل نحوه فيتعدى إليه من غير حرف، وإن كان المقصود بالأخذ غير الشيء المأخوذ حساً تعدى إليه بحرف، لأنه لما لم يكن مقصوداً فكأنه ليس هو المأخوذ، وكأن الفعل لم يتعد إليه بنفسه، فذكر الحرف، ويدل على ما ذكرنا استعمال القرآن، فإن الله تعالى قال: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} في العصا وقال تعالى: {وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] {أَخَذَ الألواح} [الأعراف: 154] إلى غير ذلك، فلما كان ما ذكر هو المقصود بالأخذ عدى الفعل إليه من غير حرف، وقال تعالى: {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} وقال تعالى: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} ويقال: خذ بيدي وأخذ الله بيدك إلى غير ذلك مما يكون المقصود بالأخذ غير ما ذكرنا، فإن قيل: ما الفائدة في توجيه الفعل إلى غير ما توجه إليه الفعل الأول، ولم قال: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم فَيُؤْخَذُ بالنواصي}؟ نقول فيه بيان نكالهم وسوء حالهم ونبين هذا بتقديم مثال وهو أن القائل إذا قال ضرب زيد فقتل عمرو فإن المفعول في باب ما لم يسم فاعله قائم مقام الفاعل ومشبه به ولهذا أعرب إعرابه فلو لم يوجه يؤخذ إلى غير ما وجه إليه يعرف لكان الأخذ فعل من عرف فيكون كأنه قال: يعرف المجرمين عارف فيأخذهم ذلك العارف، لكن المجرم يعرفه بسيماه كل أحد، ولا يأخذه كل من عرفه بسيماه، بل يمكن أن يقال قوله: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} المراد يعرفهم الناس والملائكة الذين يحتاجون في معرفتهم إلى علامة، أما كتبة الأعمال والملائكة الغلاظ الشداد فيعرفونهم كما يعرفون أنفسهم من غير احتياج إلى علامة، وبالجملة فقوله: يعرف معناه يكونون معروفين عند كل أحد فلو قال: يؤخذون يكون كأنه قال: فيكونون مأخوذين لكل أحد، كذلك إذا تأملت في قول القائل: شغلت فضرب زيد علمت عند توجه التعليق إلى مفعولين دليل تغاير الشاغل والضارب لأنه يفهم منه أني شغلني شاغل فضرب زيداً ضارب، فالضارب غير ذلك الشاغل، وإذا قلت: شغل زيد فضرب لا يدل على ذلك حيث توجه إلى مفعول واحد، وإن كان يدل فلا يظهر مثل ما يظهر عند توجهه إلى مفعولين، أما بيان النكال فلأنه لما قال: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي} بين كيفية الأخذ وجعلها مقصود الكلام، ولو قال: فيؤخذون لكان الكلام يتم عنده ويكون قوله: {بالنواصي} فائدة جاءت بعد تمام الكلام فلا يكون هو المقصود، وأما إذا قال: فيؤخذ، فلابد له من أمر يتعلق به فينتظر السامع وجود ذلك، فإذا قال: {بالنواصي} يكون هذا هو المقصود، وفي كيفية الأخذ ظهور نكالهم لأن في نفس الأخذ بالناصية إذلالاً وإهانة، وكذلك الأخذ بالقدم، لا يقال قد ذكرت أن التعدية بالباء إنما تكون حيث لا يكون المأخوذ مقصوداً والآن ذكرت أن الأخذ بالنواصي هو المقصود لأنا نقول: لا تنافي بينهما فإن الأخذ بالنواصي مقصود الكلام والناصية ما أخذت لنفس كونها ناصية وإنما أخذت ليصير صاحبها مأخوذاً، وفرق بين مقصود الكلام وبين الأخذ، وقوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} فيه وجهان:
أحدهما: يجمع بين ناصيتهم وقدمهم، وعلى هذا ففيه قولان:
أحدهما: أن ذلك قد يكون من جانب ظهورهم فيربط بنواصيهم أقدامهم من جانب الظهر فتخرج صدورهم نتأ والثاني: أن ذلك من جانب وجوههم فتكون رءوسهم على ركبهم ونواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة الوجه الثاني: أنهم يسحبون سحباً فبعضهم يؤخذ بناصيته وبعضهم يجر برجله، والأول أصح وأوضح.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11